الانتفاضة

موت الأبله

الانتفاضة

فؤاد الجعيدي

في الساعة الأخيرة من سنة الافتراس المر، ونهش العظام الرطبة، يموت فيك فجأة ذاك الأبله القديم، علمتك الجائحة أن بين الحياة والموت، ارتدادات قوية للأمل واليأس، أن تحيا ولا تحيا.

لا أحد، يقرر أن تستمر في هذه الحياة سوى اختبار الله، الذي تعجز أمام قوته كل اختبارات العلوم الحديثة والدقيقة.. لما يداهم جسدك الفيروس التاجي، تحتاج للخروج من خوفك، وتترك مساحة من القوة لجسدك كي يحارب، تقول وصفة البروتوكول التي صارت موضة، عليك بالزنك والفيتامين س والفيتامين د والكروكولين. سيقابلك جاهل وينصحك مثل خبير في الطب أن هذا الدواء، يأكل من دقات قلبك نبضها، لكن حين ينتقل له الفيروس، ستجده عند عشاب الخدنجال، يكرع الكأس تلو الكأس كما يفعل السكارى على كنطوار خشبي قديم، لم يعد له من بريق.

لم تعد لك حاسة الذوق والشم، وتقاوم من أجل استردادها بالمضادات الحيوية.. الرغبة في الأكل صارت عذابا.

أما رفيقك، الذي يتمدد على سرير الانعاش. تراه في هذا الصباح، استعاد بسمته التي جرت العادة أن يقابلك بها، لما رآك قال: ليلة البارحة شعرت بتحسن كبير، ثم تحسس ذقنه وأشار أنه في حاجة للحلاق ولعطره المفضل. ثم نام نومة عميقة.

رفيقك الممد على سرير الإنعاش، عاش ثلاثة أسابيع طويلة، عاشها بالرغبة في الاستمرار في الحياة، لكن في اللحظات الأخيرة صار أكثر إدراكا للموت، لم تصدقه، طبيب الإنعاش كان له أمل كبير في الوصفة الأخيرة التي تلقاها من البروفسور الفرنسي، بعد تحليل كل المعطيات المتعلقة بالفيروس واستراتيجيات خوض الحرب الأخيرة معه. لكن رفيقي، كان أدرى بالوضع وساعة الرحيل. استرد كل أنفاسه، ثم دعا أوسط أبنائه للوصية الأخيرة.

رأيت الموت، في ساعاته الأخيرة وفي آخر دقائقه كيف يأكل نظارة وجه رفيقي حتى أدخله إلى نومه الأبدي.

كنت في نفس الوقت أشيع الأبله الطيب الوديع في ذاتي، هذا السيد الكريم الذي اعتاد الناس الاحتيال عليه. كان يدرك مكرهم، لكن يراهن على أن تستيقظ العفة في نفوس الناس، كي لا يظلوا ينهشونه بهذه الرخاوة التي لم يستحضر في أي مرة إمكانية مقاومتها.

كان يعطي للناس فرصا في بلاهته كي يختبر فيه القدرة على التعفف، لكن معظمهم، يتحولن به إلى فريسة يومية.

المفترس لا يراعي، يفترس القيم والأخلاق، لكن النعمة التي لا يدركها بطباع غباوته أنه افترس فيك الأبله الذي لن يعود ثانية للحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى