الانتفاضة
بقلم: ذ الباحثة : ترية أعربان
نزل من على دراجته الهوائية العادية البسيطة التي لا تتوفر على ادنى شروط تسميتها , واستقبلنا بوجهه البشوش رغم ما يبدو عليه من حاجة , من خلال جسده النحيف وقميصه البني وسرواله الاسود الذي يقفز عن كعبتين بارزتين منفوق حداء رمادي باهت اللون… انه السيد علال القاطن بدرب الواد بسيدي يوسف بن علي، اعرق واقدم احياء مدينة مراكش، هذا الزقاق الذي يحمل اسم الوادي المجاور، وادي اسيل الواد الشبح كما اسماه سكان هده المنطقة ,
هذا الشبح الدي اقترن اسمه بفصل الشتاء وبمخاوف ومعاناة اهل الحي، حيث ازهق ارواحا، وضاعت معه العديد من الحوائج والاحلام، في غياب سياج واق يحميهم، ويحمي احلامهم من التيه والتشرد، ,في حين هم معروفون بحبّهم للحياة وتعلقهم بالطبيعة بكل معطياتها.
السي علال احد هؤلاء السكان الذين لهم رغبة دفينة في التغيير, فوجهه الذي تتجاذبه هذه الرغبة المشحونة بنار طموح، أطفاته وأضاعته فيضانات هدا الوادي التي لا تاتي كما هو معهود للمياه ان تنعش نفس محبة للتغيير والتحول بقدر ما تأتي لتبخر تلك الطموحات وتجعلها تسبح في عالم الضياع حتى يعيش السي علال وامثاله دوامة الحياة .
فصراع هذا البطل مع الحياة ومقاومته لهذه المعاناة، جزء لايتجزأ من وحدة معاناة سكان المنطقة الذين كافحوا دون هوادة لتحسين ظروفهم المعيشية، وناضلوا لانتزاع الاعتراف بهويتهم .
لقد كان حيهم مرتعا ومدرسة، كما تخرج منها المقاومون امثال حمان الفطواكي …فانها ايضا اعطت صناعا وحرفيين من حجم السي علال . فالقرية بكل معطياتها لازالت حاضرة في هدا الحي حيث ارتباط اهله بالارض وما تخرج من بطنها من خضراوات وحيوانات وما تمدنا به من حاجة كلها منتوجات اتقن الصانع والحرفي المراكشي المنتمي لهده المنطقة إبداعها وتقديمها في حلة تبهر الناظر وتجعله يتوقف لحظات للتامل في الطاقات والمهارات التي تميز هؤلاء الصناع رجالا ونساء في مجالات متعددة النجارة و الدباغة والنسيج والخياطة والفلاحة … “فالهيظورة والبطانية والرابوز والزربية والقفة والحصيرة والظفيرة والعقاد والبلغة وبنشكرة وبوشرويط ومشط قرن البهائم” كلها صناعات تقليدية نشم فيها رائحة الارض التي عشقها السي علال وامثاله من سكان الحي هدا ناهيك عن “تمعلميت” و القصد الحنكة المرتبطة بحسن واتقان التعامل مع انواع الخضراوات وتمييزا.
في غرفة من غرف بيته البسيط استقبلنا هدا الرجل الطيب بحفاوة جمعت كرم القروي وخفة ظل المراكشي حيث بدات حكاية احدى هده الحرف التقليدية التي بكاها اصحابها ولحقها شبح الضياع الدي اصاب سكان درب الواد فعرفت التهميش هي الاخرى وضاعت كما ضاع اصحابها من جراء فيضانات التكنولجيا، وحلت محلها منتوجات سريعة الإنتاج، مما جعلها تنكمش كانكماش اصحابها . فتَنَهُّدات السي علال تتصاعد لتعطي زفيرا معبِّرا عن احساس غريب وهو يضع امامنا على مائدة من خشب مهترئة بعض الادوات والاشكال التي حولتها يده من قرون البهائم واخرجتها أنامله الذهبية في حلة جديدة .
من جهة انبهرنا بها، وتساءلنا عن كيفية تحولها ، ومن جهة اخرى انكشف من خلال حركات وكلام هدا الرجل عشق ممزوج بالخوف من الاندثار .فما ان طرحنا السؤال حتى بدا صوت المعلم يعلو بعد ان اجاد جلسته على مقعده واستعاد حيويته وبدا يسترجع ماضيا كله نخوة وعزة . متحدثا عن حرفة مادتها الخام بيولوجية مئة بالمئة..
قرون البهائم ,حرفة ضاع اهلها وضاعت معهم العديد من التفاصيل لكن اسئلتنا التي نتبش في اغوار هده الحرفة جعلتنا نعرف ان السي علال تعلم على يد كبار صناع هده الحرفة مسترسلا في طريقة ومراحل اعداد هده الاشكال . كان يقتني هده القرون بمناسبة عيد الاضحى حيث يتهافت الصناع المهتمين على هدا المنتوج ليضعوه في مكان خاص ببيوتهم اوبحوانيتهم حيث يشتغلون .واصل الاب بحرقة يخالطها فخرواعتزاز ولوم لابنه احمد الذي صعد الدرج ليلتحق بنا ويجد مكانا الى جانب ابيه ويشاركه الحديث عن هدا المنتوج لكن تبين من نبرات حديث السي علال ان خوفه كبير واسفه شديد على نفور ابنه من هده الحرفة والتي طالما ترجى لو يحمل مشعلها خوفا من ان تنطفئ شمعتها الاخيرة .
ان صوت هدا الرجل يعلو حينا ليحكي بفخر واعتزاز، وحينا اخر تضعف نبراته ليتاسف ويبكي حظه وحظ هده الحرفة التي عشقها وقضى معها سنين .تتسابقه الاحاسيس وتتجادبه المشاعر وكان زيارتنا له ستعيد الوجود والحياة لحرفة كادت تموت وبدا يعدد فضلها عليه حيث كانت طلبات الناس واقبالهم عليها لامحدود فكانت هي مورد قوته اليومي يسدد منها واجب كراء البيت الشهري ويعيل ابناءه لكنها اليوم اضحت بقايا قرون بهائم موضوعة على السلم تفوح منها روائح نتئة وتدعوه مرة مرة لرشها ببعض المبيدات حتى لا تضيع على امل ان ابنه احمد يرجع اليها ويحولها معتمدا تلك التجهيزات التي انتابها هي الاخرى التهميش واصبحت عبارة عن بقايا تجهيزات بالية منهكة وادوات مخباة في براكة من قصدير في سطح البيت تسل منها زوجة السي علال بعضها متاسفة على ضياع الكثير منها لكن الزوج يباغتها بصوت المعلم الدي له دراية واسعة بهده التجهيزت وانه سيقوم باصلاح مافسد منها وبدات نبرات صوته تتعالى مرة اخرى وهو يحكي عن عن وظيفة كل اداة ودورها في تحويل داك النتوء الجلدي الدي يبرز من رؤوس البهائم الى اشكال جميلة تبهر العين اشكال واصناف من الحلي ديكورات مصابيح المرود المشط التقليدي الصفار… وهكدا يتسابق كل من الاب وابنه في عرضها على مسامعنا ا نها اسماء غريبة اندهشنا لها اكثر من اندهاشنا لعملية التحويل : “الوشكة” اول اداة يوضع فيها القرن لفتحه “اللقاط” ، به يؤخد القرن ويوضع على النار لتسخينه ليصبح ليّنا .” الزيار” ينزل فيه القرن ويضغط عليه حتى يصبح عبارة عن ورقة الجرد او ورقة الجرد اداة تسمح بتصفية القرن من القشور المصقلة لتمضية السكاكين الوشكة العود لقطع القرن العرضة بها تضرب ” تربيعة ” المشط وبها “تكركب” الحوال لتمضية العرضة. ” القرطة ” قطعة خشبية يقطع عليها القرن الكلاب لشد القرن المبرد الثلث لتنقية القرن ا المبرد: ظهر قصبة للتزيين المبرد المبسوط يساعد في زخرفة القرن لاخراج المشط المنشار لفتح اسنان المشط كلها ادوات لم نسمع باغلبها من قبل لكن انتابنا فضول لمسها والنظر اليها نظرة المتعجب، انها اصبحت كلمات شبه غامضة وغير معروفة لكن لها حضورها في ذاكرة حرفة مضت او ستمضي لتحل محلها كلمات بدات اداننا تستسيغها كالهاتف والحاسوب والالة الكهربائية والشبكة العنكبوتية وغيرها …
اه على حرفة تعيش مرحلة احتضار حضر فيها الشبح ,شبح الوادي والخوف من الموت والمعاناة الممزوج بالعشق ليعطي تنهدات السي علال واسف الزوجة وصمتنا امام هده الاحاسيس المتناقضة وحرقة السي علال على ماضي كان فيه يصول ويجول وهو يبد ع من مادة قرون البهائم ما يحلو له من اشكال .
اصدر زفيرا ممزوجا بحاجة ماسة لإعادة الحياة لهذه الأدوات حتى يستطيع بها اعادة الحياة لهده الحرفة قائلا :سأعيد إصلاحها وأرجو من ابني احمد ان يسمع مني ويعطي من وقته ويعتني بهده الحرفة لان لها الفضل الكبير في تنشئته وترعرعه
ودعنا السي علال ولم نودع النبش في اغوار حرف تقاوم الانقراض وتبكي الضياع الممزوج بتنهدات السي علال على حرف توارثتها الاجيال فمادا عن جيل احمد؟
زر الذهاب إلى الأعلى