ثقافة و فن

الدكتور حسن الأمراني المقارضة في ديوان: “على النهج”:الائتلاف والاختلاف بين عمريتين

الانتفاضة الثقافية : بقلم د حسن الأمراني

تمهيد: فن المديح النبوي هو أقدم الفنون الشعرية في الإسلام. فقد بدأت أصوله مع ما دبجه شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم من قصائد في مدحه، وفي وصف غزواته، وفي تدوين شمائله. بل إننا نقول مطمئنين إن ميلاده الأول كان مع ميلاد النبي عليه السلام، حيث ورد في سيرته عليه السلام أنه لما وضعته آمنة بعثت إلى عبد المطلب جاريتها، وقد هلك أبوه وهي حُبْلى. فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول:

الحمد لله الذي أعطــــــــــــــــــــــــــــــــــاني     هذا الغلام الطيّب الأردانِ

قد ساد في المهد على الغلمان      أعيذه بالبيت ذي الأركـــانِ

    وقد اشتهرت مجموعة من قصائد المديح النبوي التي قالها الشعراء الصحابة، فتناولها الشعراء من بعدُ بالمعارضة أو التخميس أو التشطير او ما سوى ذلك من فنون الشعر المعروفة. ولقد كان من أهمها بردة كعب بن زهير (بانت سعاد) التي طار ذكرها في الآفاق، فتجاوزت شهرتها العالم العربي والإسلامي، وعني بها الغربيون نشرا وتحقيقا ودراسة، وظهر أثرها على شعراء العالم الإسلامي من غير العرب، مثل شاعر الإسلام محمد إقبال. 

  وتليها في الشهرة بردة البوصيري، وقد حذا حذوها كبار الشعراء قديما وحديثا، من أشهرهم أحمد شوقي.

شج

    وقد وجد الشاعر أحمد زويريق في معارضة عيون المدائح النبوية مدخلا خصبا لينشر من محامد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعبر به عن حبه وشوقه إلى خاتم الرسل، ويعالج به ما أصاب الأمة من أدواء،  وليقدم لنا ة/ججججديوانه المتميز: “على النهج”، حيث عارض عددا من المدحيات النبوية، منها بردة كعب، وبردة البوصيري، مما جعل المعارضة في هذا الديوان معلما بارزا، وفنا يستحق أن يخص بدراسة أو دراسات مستقلة، ولا سيما أن الشاعر أضفى على معارضاته ميسمه الخاص، الذي من سماته الطابع المغربي، بالإضافة إلى بروز الذات الشعرية فيه بروزا لافتا. وقد عالج فن المعارضة في الديوان أكثر من دارس.

    على أنني وجدت في ديوان (على النهج) ظاهرة أخرى،  أو لنقل: فنا جديدا غير معهود، أسميته: (المقارضة). وهو ما سنقف عنده بعد الوقوف قليلا عند عنوان الديوان.

     في العنوان: يستوقفنا عنوان الديوان: “على النهج”، فما دلالة هذا العنوان؟ نهج ماذا؟ ونهج من؟  

                   

   يعتمد الديوان كثيرا على المعارضة، ولذلك رجح بعضهم أن هذه التسمية (على النهج) تعني نهج الشعراء القدامى الذين مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم من كعب إلى شوقي. وربما وجدوا ما يقوي هذا الاختيار بعض ما قاله الشاعر نفسه، حيث قال في مقدمة همزيته، في القسم الثاني من مدح المصطفى عليه السلام:” شدّ ما يثلج الصدر، وأنا آتي على إنهاء هذه الأضمومة من الأشذاء الفائحة في مدح خير الورى، مشيا على هدي من سبقوا، موازنا بها ما دبجته قرائحهم وما أملته أقلامهم. علما أن الفضل ليس إلا للمتقدم”. 

   إنه على رغم التأويلات التي قيلت بأن المراد من (على النهج)  هو نهج الشعراء السالفين، من كعب بن زهير إلى شوقي ومن بعده، إلا أن النص، عندي،  يرجح الفهم الذي يبادر القارئ أول مرة: وهو أن المراد بالنهج ليس نهج الشعراء، بل نهج السلف الصالح. يقول الشاعر في (عمريته):

لا تلمني فما مشيت على النهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــج سويّاً وفيك مني الثنــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء

      إنّ هذا هو الذي مالت إليه النفس أول وهلة عند قراءة العنوان، “على النهج”،  إنه “نهج الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين”، عملا بقول الحبيب عليه السلام:” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ”، ويقوي ذلك أن الديوان ليس في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وإن كان القسم الأوفر منه هو في نشر محامد المصطفى صلى الله عليه وسلم،  إلا أن قسما منه هو في مدح الخلفاء الراشدين، وفي مدح المبشرين بالجنة. وحسبنا العنوان الفرعي للديوان:

(على النهج: قصائد في المديح النبوي والخلفاء الراشدين).

       ولكن هذا غير مانع من أن يكون الوجه الثاني مرادا أيضا، وهو نهج الشعراء السالفين، وهذا الجمع بين الوجهين هو من وفرة الاحتمالات التي يمنحنا لنا الشعر الأصيل. فقد جعل الشاعر مدحه للنبي عليه السلام، والخلفاء الراشدين، على نهج همزية البوصيري، أي على البحر الخفيف، وجعل القافية همزة. فالجزء الأول ضم القسم الأول، وعنوانه: “في رحاب المدينة المنورة”، والجزء الثاني ضم القسم الثاني، وعنوانه: “في عرصات النور: مكة المكرمة”، ولا شك أن القارئ سيعجب من عرض الشاعر سيرة المصطفى عليه السلام بالمدينة المنورة، في الجزء الأول، قبل سيرته صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، في الجزء الثاني. ولم أجد لذلك مخرجا ولا تأويلا، إلا أن يكون الفيض الشعري قد وافى الشاعر، أول ما وافاه، وهو يحن إلى المدينة المنورة، وذلك أمر تقويه أشعار من الديوان. وقد جعل الشاعر بين يدي القصيدة كلمة ظننتها ستجلي هذا الاختيار، إلا أنه لم يشر إليه ولو بلمح، مما يقوي الظن أنه نظم القسم المتعلق بالمدينة المنورة أولا، ثم بدا له بعد ذلك أن يستكمل السيرة العطرة، فنظم القسم المتعلق بعرصات النور، مكة المكرمة.

   في مفهوم المقارضة:

    من المعلوم أن العرب عرفوا في جاهليتهم فنا شعريا سموه: (النقائض)، وقد انتشر هذا الفن انتشارا واسعا في المدينة المنورة بخاصة، للحروب المتصلة التي كانت بين أحيائها. ومفهوم النقيضة هو أن يقول شاعر قصيدة، يفخر بها بقومه، أو يهجو قبيلة مناوئة، فيتصدى له شاعر آخر من القبيلة الأخرى، ويرد عليه ناقضا البناء الذي بناه الأول، ويشترط في النقيضة، بالإضافة إلى الموضوع المشترك، والمعاني المتقاربة، أن يلتزم الشاعر الثاني بما اختاره الشاعر الأول من وزن وقافية، مما يجعل حريته مقيدة بذلك الاختيار.

  ثم ظهر في عصر متأخر بعد ذلك فن آخر، هو فن المعارضة. وتلتقي المعارضة مع المناقضة في التزام القصيدتين الوزن والقافية نفسهما، إلا أن الفرق بين الفنين هو أن الشاعر المعارض لا يرمي إلى هدم معاني القصيدة الأولى، بل إلى تثبيتها والنسج على منوالها، لأن المعارضة لا تنبع إلا انطلاقا من إعجاب الشاعر المعارض بما يعارض.

    وأما المقارضة فمصطلح شعري جديد، اقترحته بناء على ما أمدتني به قراءتي لعمرية إسماعيل زويريق، وهو مشتق من مادة (قرض)، ويجوز أن يكون اللفظ الدال هو (الاقتراض)، كما يجوز أن يكون هو لفظ (القريض)، فكلاهما متحقق في المقارضة. فاللفظ الأول، وهو الاقتراض، يعطينا أن الشاعر الثاني يقترض من الشاعر الأول معانيه، ويسعى إلى أن يضفي عليها ميسمه الخاص، واللفظ الثاني، وهو القريض، يجعل الشاعر الثاني مرتبطا فنيا بالقريض الذي قدمه الشاعر الأول، وصيغة (المفاعلة) تقتضي المشاركة، فكأن الشاعر الثاني يقارض الشاعر الأول، أي يجاريه في القريض. ومؤدى هذا المصطلح أن الشاعر يعجب بقصيدة لشاعر سابق له، فيجاريه في معانيها، ويرسخها، إلا أنه يوسع على نفسه فلا يلتزم ما التزم به الشاعر الأول من وزن وقافية. وهذا أهم ما تخالف فيه المقارضة كلا من المناقضة والمعارضة.

    والمقارضة في ديوان (على النهج) تتمثل في قصيدة للشاعر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

     هذا وقد خص الشاعرُ عمرَ رضي الله عنه بقصيدتين، قصيدة ضمن الجزء الثالث من “على النهج”، في: “القسم الثالث من الهمزية، المسمى ومضات من حياة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم” وهي تقع في قسم خاص بعمر،  ما بين صص 159 ــ 175، وهذه هي التي نطلق عليها هنا اسم “العمرية”، وهي همزية، أشار الشاعر إلى أنه بناها على نهج همزية البوصيري. 

    والقصيدة الثانية وردت في الجزء الخامس، ضمن قصيدة مطولة عنوانها: “روضة النسرين في سيرة المبشرين”، وعمر بطبيعة الحال واحد من المبشرين بالجنة. وقد سمى القسم الخاص بعمر، “الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه” ، وهي قصيدة من المزدوج، مطلعها:

إن الخليفة أبا حفص عمر       كان له في الدين أعظم أثر

    ولقد التزم الشاعر في (العمرية) وزنا واحدا، وهو الخفيف، ورويا واحدا، وهو الهمزة.  والقصيدة تروي سيرة الفاروق في عدة مقاطع، وقد قارض بها الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، في قصيدته المسماة: “العمرية”. وسنرى مظاهر الائتلاف والاختلاف بين النصين، لنتبين خصائص المقارضة عند إسماعيل زويريق.

   ـــ  بين العمريتين:

 أما حافظ إبراهيم فقد سمى قصيدته: (العمرية). ومطلعها:

حسبي وحسب القوافي حين ألقيها       أني إلى ســــــــــاحة الفاروق أزجيها

وهي قصيدة تروي سيرة الفاروق في عدد من المحطات المهمة من حياته، وقد جعلها الشاعر موحدة الوزن والقافية، فالوزن هو البسيط، والقافية هي الهاء المردفة، الموصوله بالأف. ولا عجب في ذلك، فحافظ إبراهيم، هو وشوقي، علما المدرسة الاتباعية. 

وأبواب (عمرية) حافظ كالتالي:

ــ مقتل عمر (14 بيتا) ص 12  ،

ـــ إسلام عمر (11 بيتا) ص 16 ــ

ــ عمر وبيعة أبي بكر ( 14بيتا) ص.18

ــ عمر وعلي (5 أبيات) ص. 22

ــ عمر وجبلة بن الأيهم ( 4أبيات) ص.23

ــ عمر وأبو سفيان (9أبيات ) ص. 24

ــ عمر وخالد بن الوليد ( 30 بيتا) ص. 25

ــ عمر وعمرو بن العاص ( 5حمسة أبيات) ص. 32

ــ عمر وولده عبد الله (8 أبيات) ص. 33

ــ عمر ونصر بن حجاج (9أبيات)، ص. 34

ــ عمر ورسول كسرى ( 7 أبيات) ص. 35

ــ عمر والشورى (8 أبيات) ص. 37

ـ مثال من زهده (7 أبيات) ص. 38

  ــــ  مثال من رحمته ( 4 أبيات) ص. 39

ـ مثال من تقشفه وورعه (15 بيتا) ص. 40

ــ مثال من هيبته (16 بيتا) ص. 43

ــ مثال من رجوعه إلى الحق (11 بيتا) ص. 46

ــ عمر وشجرة الرضوان (بيتان) ص. 47

ــ الخاتمة  ( 5 أبيات) ص. 47

فيكون مجموع أبيات القصيدة هو: 184، وهو عدد يجعلها بلا شك من المطولات في الشعر العربي.

    وأما إسماعيل زويريق فكانت قصيدته كالتالي: جعل عنوان القصيدة (عمر الفــــــــــــاروق رضي الله عنه)، وجعل بين يديها تمهيدا قال فيه: “أعظم رجل في تاريخ الإنسانية، لم ينل حظه من مديح الشعراء، وما وقفت عليه لا يتعدى قصائد معدودة، باستثناء ما قاله أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي المالقي المعروف بابن الشيخ المتوفى سنة 604، إذ قال قصيدة مطولة تزيد على المائة، أشار إليها في كتابه: “ألف باء”، منها:

                 وقد فتحت عليه كنـــــــوز كثيرة        وجُبّتـــــــه تُـــــــــــــــــــرقّع بالجلود

حطامُ حَصِيـــرهِ من حبـــْلِ ليفٍ       ومسْكنُهُ ببابٍ من جريــــد

وما قاله حافظ إبراهيم فيه في قصيدته المشهورة في 187 بيت


مطلعها:

حسب القوافي وحسبي حين ألقيها       أني إلى ساحة الفاروق أزجيها

وأتمنى أن أكون ثالث الثلاثة بهذه القصيدة”.

    كان الشاعر مخلصا وصادقا في هذه المقدمة، فهو لم يدلّس على القارئ، ولم يزعم أنه أول من تناول سيرة الفاروق شعرا. كما أنه يرجو أن يكون ثالث الثلاثة في تخليد مآثر الفاروق. وقصيدة زويريق أطول القصائد الثلاث دون شك، فإذا كانت قصيدة البلوي تقع في حوالي مائة بيت، وقصيدة حافظ تقترب من المائتين،  فإن مقدمة قصيدة زويريق وحدها تبلغ 85 بيتا، لتتجاوز سائر المقاطع المائتي بيت و الثمانين بيتا، فيكون مجموع أبيات القصيدة اكثر من ثلاثمائة بيت.

      وقد جاءت  سيرة الفاروق في قصيدة زويريق، بعد المقدمة، تحت هذه العناوين: هجرته ــ عمر والتحاق الرسول الأعظم بالرفيق الأعلى ــ عمر وعام الرمادة ــ عمر والطفل الفطيم ــ عمر وعمرو بن العاص ــ عمر وأموال الدولة ــ عمر والشورى ــ عمر وأقاربه ــ الاستشهاد. 

وواضح أن زويريق سار على نهج حافظ في تسمية بعض مقاطعه بمراحل من سيرة عمر. بل إن بعض العناوين متشابهة، مثل (عمر وعمرو بن العاص)، و(عمر والشورى). إلا أنه وقف عند محطات أخرى من سيرة الفاروق لم يقف عليها حافظ، ومنها: عمر وعام الرمادة ــ عمر والطفل الفطيم ــ عمر وأموال الدولة.

    ومما لا شك فيه أن للاختيار دلالته، ولا نشك في التوجه الإصلاحي لعمرية حافظ، إلا أن ما أضافه إسماعيل زويريق يؤكد الطابع الإصلاحي المهتم بالعدالة الاجتماعية بصفة خاصة. فإسماعيل لم يتحدث عن زهد عمر وتقشفه وورعه، كما فعل حافظ، وكأنه يرى أن تلك صفات فردية خالصة، ولا تعني المجتمع، في حين أكد على ما له طابع اجتماعي، مثل الشورى، والجوع، وأموال الدولة.

     في (عمرية حافظ)، يلاحظ من حيث الترتيب أن الشاعر بدأ بمقتل عمر، ثم عاد إلى إسلامه، وهكذا..  وهو ترتيب غريب. وبعد استعراض مواقف لعمر عبر حياته وهو خليفة، عاد إلى مرحلة بيعة الرضوان، فكان الترتيب غير منسجم مع مسيرة تاريخ عمر، ولا ندري ما الذي جعل الشاعر يميل إلى هذا، ولعل وراء ذلك حكمة لم أتبينها.

وأما (عمرية) زويريق فتبدأ بمرحلة الهجرة وتنتهي باستشهاد عمر، في نوع من السرد المنطقي.

ـــــــ  خصائص الفن في قصيدة إسماعيل:

   تتميز قصيدة إسماعيل زويريق بعدد من الخصائص الفنية التي تجعله ذا مذهب خاص في تناوله سيرة الفاروق.  ونحن نشير هنا إلى بعضها، إذ حصرها جميعا مما قد يعــــزّ في هذا المقام:

1 ــ وحدة البناء: ويراد بها الربط بين أول القصيدة وآخرها، بالإضافة إلى ما هو معروف من عناصر الوحدة والربط، عندما تتعدد أغراض القصيدة. ونحن هنا أمام نص موحد الغرض، إلا أن داخله وحداتٍ تنبثق من استلهام الحوادث الكبرى في سيرة الفاروق. لقد أشار الشاعر في التمهيد النثري إلى أن “أعظم رجل في تاريخ الإنسانية لم ينل حظه من مديح الشعراء”. وهذا كأنه تثريب على الشعراء لتقصيرهم. إلا أن السبب في ذلك الانصراف يفصح عنه الشاعر في مقدمة القصيدة وخاتمتها، حيث يكون السبب هو العجز عن الإحاطة بفضائل عمر. ففي المقدمة يقول:

ما لهذا اليراع جــــــــــفّ وما استر     خى طليقا في مدحك الإنشاءُ

كيف يثنى عليك يا من تحامتـــــــــــه الشياطيـــــن واستُطِيرت نساء

وفي الخاتمة يقول:

                                    يا أبــــــــا حفص إنْ أكــــــــــــــــن في رثائي      عاجـــــــــــــزا، لا يطيـــــــــعُ فيك رثاءُ

        فلأن القصيــــــــــــــــــدَ فيك قلـــــــــــــيـــــــــــــــلٌ        ليس يُوفي حقوقَــــــــــــــــــك الإيحاءُ

       عجز الشعر أن يوافيك مدحــــــــاً       فانثنى عن مديـــــحك الشعـــــــــــــراءُ

فكأن الخاتمة كانت جوابا عما ورد في المقدمة.

2  ـ استثمار الألفاظ الغريبة: في القصيدة كثير من الألفاظ الغريبة، أو ما يطلق عليه حوشي اللفظ، ولاسيما في القوافي، وهو ما قد يحتاج إلى تعليل. ولعله استحضار لأجواء تلك الفترة الأولى. وقد يكون أيضا مما يغلب على أهل الجنوب عندنا بخاصة، إذ يميل أهل الشمال إلى رقة الأندلسيين. ونحن كلما أوغلنا جنوبا ازداد التقاط الألفاظ الحُوش، وكأن ذلك أثر من أثر البداوة. ولك في كتاب أحمد بن الأمين الشنقيطي: (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) مثل واضح على ذلك.

 ومما ورد في ديوان إسماعيل ما يلي: 

1 ـ                           عجبا أن يغيظ صدرَ قريشٍ   ما وعتْ ممّا يكشف الإجهاء

يقال: أجهتِ السماء، انقشع عنها الغيم.

 2 ــ                       طرق البابَ طَــــرقةً وتداعتْ     مهجٌ من إقراشِها حمساءُ

يقال: تقرّشوا، إذا تجمّعوا. وتقارشت الرماحُ، أي تداخلت في الحرب، وأقرشَ به إقراشاً، أي سعى به ووقع فيه.

   والأحمسُ هو الشجاع، وهو أيضا المتشدّد في الدين، وقد سميت قريش وكنانة الحُمْس لتشددهم في الدين. فالمهج الحمساء هي كل ذلك.

3 ــ                     أينه أحمدُ الرسولُ؟ فإني        بالذي جاء مومنٌ مِــــيفاء 

وقد صعب علي فهم :”مِيفاء” إلا بالظن، بردّها إلى الوفاء، لأن أصل الميفاء الإشراف على الشيء. قال الجوهري: “وأوفى على الشيء، أي أشرفَ. وعَيرٌ مِيفاءٌ على الآكام، إذا كان من عادته أن يوفي عليها”.

  4 ــ                       يا ابن عوفٍ، تصرّم الليلُ فلتبْـــــــــــــــــــــــــقَ هنا حتى تشرق الصقعاءُ.

والصّقعاءُ هي الشمسُ. قالت ابنة أبي الأسود الدؤلي لأبيها في يوم شديد الحرّ: “يا أبتِ، ما أشدُّ الحرِّ، قال: إذا كانت الصقعاءُ من فوقك، والرمضاءُ من تحتك. فقالـ: أردتُ أنّ الحرّ شديدٌ. قال: فقولي إذن: ما أشدَّ الحرَّ. فحينئذٍ وضع باب التعجُّب.

فالإجهاءُ، والإقراشُ، والحمساءُ، والميفاءُ، والصقعاءُ، وفي غير القوافي مفردات أخرى لا تقلّ غرابة، كلُّ ذلك مما لا يصل إليه القارئ العادي بسهولة، وربما استعمى بعضها حتى على المتخصصين، إلا أن يستنجدوا بالمعاجم اللغوية.

4 ــ المرجعيات الخفية: في القصيدة مرجعيات واضحة ترتد إلى القصائد المشهورة من عهد النبوة، إلا أن هناك بعض المرجعيات الأقل شهرة، وقد تكون خفية عند من لم يكن على اطلاع واسع على الشعر العربي القديم. وذلك في مثل قوله

وانتهى ما كانت بوادره لـــــــــــــــــــــــو     لاه أن تنتهي بمـــــــــــــــــــــــا لا يشاء

فكلمة (بوادره) هنا تستدعي بيتي النابغة الجعدي:

وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لـَهُ

بَوَادِرُ تَحْـمِي صَفـْوَهُ أَنْ يُـكَدَّرا

وَلاَ خَيْرَ في جَهْل إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ

حَلِيـْمٌ إذَا ما أوْرَد الأمْـرَ أصْـدَرَا

 وقد استحسنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا للشاعر بدعائه: “لا يفضض الله فاك”.

   5 ــ المحسنات البديعية، ومنها الجناس، كقوله:

وغدت من مُحُـــــــــــــــــــــــــــــــولها كلّ شاة       هملا يُغثي النفسَ منها ثُغاءُ

فقد جانس بين الفعل “يغثي” والاسم “ثغاءُ”. وهو يدخل ضمن الجناس غير التام.

ومن ذلك الرنين والترنم، كقوله:

                 نــــــــــــام من لم ينمْ ولم تبق يقظى    جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزعاً إلا مقْـــــلة بكّاءُ

مقلة الفاروق التي لم تذق للـــــــــــــــــــــــــــــــــــغمض طعماً ولم ينلها وناء

ففي البيتين  هذا التناوب بين حرفي الميم واللام، يحدث إيقاعا خاصا (نام ــ من ــ لم ــ ينم ــ لم ــ مقلة ــ مقلة ــ لم ــ الغمض ــ طعما ــ لم ــ ينلها). ثم تبرز القاف أيضا في البيتين لتوفر نغما متميزا، لا يخلو من قوة، تكشف عنه هذه الألفاظ: (تبق)، (يقظى)، (مقلة)، مكررة، (الفاروق)، (تذق). إن هذا هو ما سماه بعض الباحثين (ملابسة الطبع للصنعة).

6 ــ التصوير: ومنه:

سكن الليل، واستفاض على الأرض ستـــــــــــــــارٌ نسيجهُ الظلماءُ

فانظر كيف تنسجُ الظلماءُ ستاراً يُضرب على الأشياء.

وفي قوله:

صوّح الكون واقشعرّ من الكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون ثراه وقلّت الأُكَلاء

بخلت بالغيث السّماء عليها    ويح أرض ضنّت عليها السماء

ألا نرى هنا إلى هذه الصورة التي تجعل الكون يقشعر ثراه، وكأنه إنسان، يتأثر كما يتأثر البشر؟ وهذه كناية عن فداحة الخطب، وعظم المصيبة.

       وما يؤكد هذا التصوير والتمثيل بالإنسان، جعلُه السماء تبخلُ، والبخل شيمة من شيم البشر. واستعمل في الشطر الأول: “بخلت”، وفي الشطر الثاني: “ضنّتْ”، وفي ذلك نوع من التنويع في التعبير.

ولننظر أيضا إلى هذا الجمع: (الأُكلاء)، بدلا من (الأكَلة)، كما جاء في الحديث الشريف. 

7  ـ اختراع الأمثال :

وبدا الإنس للوُحيش أنيسا          يجمع الضدّين في الحياة الداءُ

فالشطر الثاني من البيت يصحّ أن يضرب مثلا، وهو مثل مبتدع بليغ.

8 ــ أسلوب القص: شيء طبيعي أن يكون لأسلوب القص حضور في عمرية إسماعيل، كما كان حاضرا في عمرية حافظ. وقد سعى إسماعيل إلى أن يضفي على أسلوب القصّ نوعا من الرواء، وذلك بالتقاط نبضات روح عمر، فذلك قوله

يا غلامُ ائتني بخـــبــــــــــــزٍ وزيْـــــــــــــــــــــــتٍ        فيهما عمّــــــــــــا في الجَــــــــــــــــزور غَنــــاءُ

أخذ الكـــــــــــــــــافي منه غير مـُـغَـــــــــــــــــــــالٍ     واستراحتْ مما تعــــــــــــــــــــاني الدّمــــــــــــــــاءُ

    فهو هنا يمزج بين السرد من جهة، باستعمال ضمير الغائب، وبين حيوية الحوار، باستعمال ضميري المتكلم والمخاطب. وعندما يكون طلب الأمير هو الخبز والزيت، فهذا إيحاء بتواضع هذا الأمير وعدم اختصاصه بشيء من رخاء لعيش دون الرعية.

9 ــ الرسالية في القصيدة: ليست القصيدة عند الشاعر ترفا ولا لهوا، فالشاعر صاحب رسالة، ولئن كان أوْلَى قصيدته من بهاء الصنعة ما رأينا، فلكي يكون ذلك سبيلا إلى تحبيب الرسالة، أي لكي يتحقق طرفا العملية الإبداعية: البلاغة والبلاغ، إذ هما عنصران متلازمان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر، وإلا اختلت العملية الإبداعية، وضعف التواصل بين الباث والمتلقي.. وقد قدمنا صورا من البلاغة آنفا. فأما البلاغ فهو أن الشاعر يهدف من استحضار سيرة الفاروق إلى أن يكون فيها موعظة وبلاغ. وهنا يلتقي حافظ إبراهيم وإسماعيل زويريق في الغاية ويختلفان في الأداء. فحافظ، على منهجه المعروف في الإصلاح، ليس شاعر المواجهة، فلا يكاد يمس أولي الأمر إلا مسّا رفيقا رقيقا. وهو يترك للقارئ فرصة استجلاء المراد بعرض مواقف من سيرة الفاروق، ثم يقول له: تدبر. وأما إسماعيل فهو يعرض سيرة الفاروق من جهة، ثم يواجه أولي الأمر من جهة أخرى، ويصدع بالأمر غير هياب ولا وجل.

   تلك صُوى التي يمكن أن يهتدى بها إلى أغوار النص، ومن الله وحده التوفيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى